فصل: تفسير الآية رقم (135)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏123 - 126‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا‏}‏

قال قتادة‏:‏ ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم‏.‏ وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ‏[‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏]‏ الآية‏.‏ فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان‏.‏

وكذا روي عن السّدي، ومسروق، والضحاك وأبي صالح، وغيرهم وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية‏:‏ تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة‏:‏ كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء‏.‏ وقال أهل الإنجيل مثل ذلك‏.‏ وقال أهل الإسلام‏:‏ لا دين إلا الإسلام‏.‏ وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا‏.‏ فقضى الله بينهم فقال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ وخَيَّر بين الأديان فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ‏[‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا‏}‏

وقال مجاهد‏:‏ قالت العرب‏:‏ لن نبْعث ولن نُعذَّب‏.‏ وقالت اليهود والنصارى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وقالوا ‏{‏لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏‏.‏

والمعنى في هذه الآية‏:‏ أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال‏:‏ ‏"‏إنه هو المُحق‏"‏ سمع قوله بمجرد ذلك، حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام؛ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ كقوله ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏.‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير قال‏:‏ أخْبرْتُ أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ فَكُل سوء عملناه جزينا به‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر، ألستَ تَمْرضُ‏؟‏ ألستَ تَنْصَب‏؟‏ ألست تَحْزَن‏؟‏ ألست تُصيبك اللأواء‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فهو ما تُجْزَوْنَ به‏"‏‏.‏ ورواه سعيد بن منصور، عن خلف بن خليفة، عن إسماعيل بن أبي خالد، به‏.‏ ورواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يَعلى، عن أبي خَيْثَمة، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، به‏.‏ ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري، عن إسماعيل به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت أبا بكر يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من يعمل سُوءًا يُجْزَ بِهِ في الدنيا‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه‏:‏ حدثنا أحمد بن هُشَيْم بن جُهَيْمَة، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال‏:‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا ولا تمرُّنَّ عليه‏.‏ قال‏:‏ فسها الغلام، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال‏:‏ يغفر الله لك ثلاثًا، أما والله ما علمتك إلا صوّامًا قوّامًا وصّالا للرحم، أما والله إني لأرجو مع متساوى ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها‏.‏ قال‏:‏ ثم التفت إلي فقال‏:‏ سمعت أبا بكر الصديق يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به‏"‏‏.‏

ورواه أبو بكر البزار في مسنده، عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء، به مختصرا‏.‏ وقد قال في مسند ابن الزبير‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المستمر العُروفي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حَيّان، حدثني أبي، عن جدي حيان بن بسطام، قال‏:‏ كنت مع ابن عمر، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب، فقال‏:‏ رحمك الله أبا خُبيب، سمعت أباك -يعني الزبير- يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا والأخرى‏"‏ ثم قال‏:‏ لا نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه‏.‏

وقال أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني مولى بن سِبَاع قال‏:‏ سمعت ابن عمر يحدث، عن أبي بكر الصديق قال‏:‏ كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، هل أقرئك آية نزلت علي‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله‏.‏ فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصَامًا في ظهري حتى تمطأت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مالك يا أبا بكر‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجْزيُّون بكل سوء عملناه‏؟‏‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فَتُجْزَوْنَ بذلك في

الدنيا حتى تلقوا الله، وليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة‏"‏‏.‏ وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى، وعبد بن حميد، عن روح بن عبادة، به‏.‏ ثم قال‏:‏ وموسى بن عبيدة يضعف، ومولى بن سباع مجهول‏.‏

‏[‏وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا الغلام، حدثنا الحسين، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ لمَّا نزلت قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما هي المصائب في الدنيا‏"‏‏]‏‏.‏

طريق أخرى عن الصديق‏:‏ قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، حدثنا محمد بن عامر السعدي، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صُبَيح، عن مسروق قال‏:‏ قال أبو بكر ‏[‏الصديق‏]‏ يا رسول الله، ما أشد هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء‏"‏‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي، حدثنا محمد بن زيد بن قُنْفُذ عن عائشة، عن أبي بكر قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، كل ما نعمل نؤاخذ به‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر، أليس يصيبك كذا وكذا‏؟‏ فهو كفارة‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال سعيد بن منصور‏:‏ أنبأنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن بكر بن سوادة حدثه، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه، عن عبيد بن عمير، عن عائشة‏:‏ أن رجلا تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ فقال‏:‏ إنا لنُجْزَى بكل عَمَل ‏؟‏ هلكنا إذًا‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏نعم، يجزى به المؤمن في الدنيا، في نفسه، في جسده، فيما يؤذيه‏"‏‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سلمة بن بشير، حدثنا هُشَيْم، عن أبي عامر، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة قالت‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إني لأعلم أشد آية في القرآن‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما هي يا عائشة‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ فقال‏:‏ ‏"‏هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير من حديث هشيم، به‏.‏ ورواه أبو داود، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ فقالت‏:‏ ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏يا عائشة، هذه مبايعة الله للعبد، مما يصيبه من الحمى والنَّكْبَة والشوكة، حتى البضاعة فيضعها في كُمِّه فيفزع لها، فيجدها في جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير‏"‏‏.‏

طريق أخرى‏:‏ قال ابن مَرْدُويه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو القاسم، حدثنا سُرَيج بن يونس، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن زيد بن المهاجر، عن عائشة قالت‏:‏ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفَيْظ عند الموت‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله بالحَزَن ليُكَفِّرها عنه‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال سعيد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمر بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن، سمع محمد بن قيس بن مَخْرَمَة، يخبر أن أبا هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ شَقّ ذلك على المسلمين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سَدِّدوا وقاربوا، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا‏"‏‏.‏

وهكذا رواه أحمد، عن سفيان بن عيينة، ومسلم والترمذي والنسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به ورواه ابن مَردُويه من حديث روح ومعتمر كلاهما، عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم، سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ بكينا وحزنا وقلنا‏:‏ يا رسول الله، ما أبقت هذه الآية من شيء‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت، ولكن أبشروا وقاربوا وسَدِّدوا؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكمفي الدنيا إلا كفَّر الله بها خطيئته، حتى الشوكة يُشَاكها أحدكم في قدمه‏"‏‏.‏

وقال عطاء بن يسار، عن أبي سعيد وأبي هريرة‏:‏ إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما يصيب المؤمن من نَصب ولا وَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن، حتى الهم يُهَمّه، إلا كُفّر به من سيئاته‏"‏ أخرجاه‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى، عن سعد بن إسحاق، حدثتني زينب بنت كعب بنُ عُجْرَة، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا‏؟‏ ما لنا بها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏كفارات‏"‏‏.‏ قال أبي‏:‏ وإن قَلَّتْ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن شوكة فما فوقها‏"‏ قال‏:‏ فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الْوَعْك حتى يموت، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فما مسه إنسان إلا وجد حره، حتى مات، رضي الله عنه‏.‏ تفرد به أحمد‏.‏

حديث آخر‏:‏ روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، ومن يعمل حسنة يُجزَ بها عشرا‏.‏ فهلك من غلب واحدته عشرًا‏"‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ الكافر، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وهكذا رُوي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير‏:‏ أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ إلا أن يتوب فيتوب الله عليه‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

والصحيح أن ذلك عامٌّ في جميع الأعمال، لما تقدم من الأحاديث، وهذا اختيار ابن جرير، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ‏[‏فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا‏]‏ لما ذكر الجزاء على السيئات، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا -وهو الأجود له -وإما في الآخرة -والعياذ بالله من ذلك، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة، والصفح والعفو والمسامحة -شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذُكْرَانهم وإناثهم، بشرط الإيمان، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير، وهو‏:‏ النقرة التي في ظهر نواة التمرة، وقد تقدم الكلام على الفتيل، وهو الخيط الذي في شق النواة، وهذا النقير وهما في نواة التمرة، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة، الثلاثة في القرآن‏.‏ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ أخلص العمل لربه، عز وجل، فعمل إيمانًا واحتساباً ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ أي‏:‏ اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي‏:‏ يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد‏.‏ فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا‏.‏ ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ ‏[‏فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏]‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏}‏ وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ ‏[‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏[‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏ و‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏ والحنيف‏:‏ هو المائل عن الشرك قصدا، أي تاركًا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا‏}‏ وهذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏ قال كثيرون من السلف‏:‏ أي قام بجميع ما أمر به ووفَّى كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ‏[‏قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏]‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏[‏شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏.‏ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏]‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120-122‏]‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ إن معاذًا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم‏:‏ فقرأ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا‏}‏ فقال رجل من القوم‏:‏ لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم‏.‏

وقد ذكر ابن جرير في تفسيره، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل -وقال بعضهم‏:‏ من أهل مصر -ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله، فلم يصب عنده حاجته‏.‏ فلما قَرُب من أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال‏:‏ لو ملأت غَرَائري من هذا الرمل، لئلا أغُمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون‏.‏ ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا‏:‏ من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال‏:‏ نعم، هو من خليلي الله‏.‏ فسماه الله بذلك خليلا‏.‏

وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، وإنما سُمّي خليل الله لشدة محبة ربه، عز وجل، له، لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال‏:‏ ‏"‏أما بعد، أيها الناس، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله‏"‏‏.‏

وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا‏"‏‏.‏

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه‏:‏ حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أُسَيْد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزجاني بمكة، حدثنا عُبَيد الله الحَنَفي، حدثنا زَمْعة بن صالح، عن سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول‏:‏ عجبًا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله‏!‏ وقال آخر‏:‏ ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما‏!‏ وقال آخر‏:‏ فعيسى روح الله وكلمته‏!‏ وقال آخر‏:‏ آدم اصطفاه الله‏!‏ فخرج عليهم فسلم وقال‏:‏ ‏"‏قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشَفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها‏.‏

وقال قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أتعجبون من أن تكون الخُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

رواه الحاكم في مستدركه وقال‏:‏ صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه‏.‏ وكذا روى عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا محمد -يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو -يعني ابن أبي قيس -عن عاصم، عن أبي راشد، عن عُبَيْد بن عُمَير قال‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائمًا، فقال‏:‏ يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني‏؟‏ قال‏:‏ دخلتها بإذن ربها‏.‏ قال‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا‏.‏ قال‏:‏ من هو‏؟‏ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينّه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرق بيننا الموت‏.‏ قال‏:‏ ذلك العبد أنت‏.‏ قال‏:‏ أنا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فيم اتخذني الله خليلا‏؟‏ قال‏:‏ إنك تعطي الناس ولا تسألهم‏.‏

وحدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن يسار قال‏:‏ لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوَجَل، حتى إن كان خفقانُ قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء‏.‏ وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يسمع لصدره أَزِيزٌ كأزيز المرْجل من البكاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرف في جميع ذلك، لا راد لما قضى، ولا معقب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا‏}‏ أي‏:‏ علمه نافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعْزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال‏:‏ حدثنا هشام بن عروة، أخبرني أبي عن عائشة‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ قالت‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمة، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله، حتى في العَذْق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية‏.‏

وكذلك رواه مسلم، عن أبي كُرَيب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن أبي أسامة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة‏:‏ ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلمبعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ الآية، قالت‏:‏ والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وبهذا الإسناد، عن عائشة قالت‏:‏ وقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن‏.‏ وأصله ثابت في الصحيحين، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي، به‏.‏

والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل‏.‏ وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة‏.‏ وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده، أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فِي يَتَامَى النِّسَاء ‏[‏اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏]‏ الآية، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة، فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك ‏[‏بها‏]‏ لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها‏.‏ فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه‏.‏

وقال في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ‏}‏ كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏ فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال‏:‏ ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ صغيرًا أو كبيرًا‏.‏

وكذا قال سعيد بن جبير وغيره، قال سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ‏}‏ كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}‏ تهييجًا على فعل الخيرات وامتثال الأمر وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128 - 130‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين‏:‏ تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها‏.‏

فالحالة الأولى‏:‏ ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ من الفراق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ‏}‏ أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها، فصالحته على أن يمسكها، وتترك يومها لعائشة، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك‏.‏

ذكر الرواية بذلك‏:‏ قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا سليمان بن معاذ، عن سِمَاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة‏.‏ ففعل، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏

ورواه الترمذي، عن محمد بن المثنى، عن أبي داود الطيالسي، به‏.‏ وقال‏:‏ حسن غريب

وقال الشافعي أخبرنا مسلم، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان‏.‏

وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عُرْوة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة‏.‏

وفي صحيح البخاري، من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحوه‏.‏

وقال سعيد بن منصور‏:‏ أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام، عن أبيه عروة قال‏:‏ أنزل الله تعالى في سودة وأشباهها‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ وذلك أنسودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وضنَّت بمكانها منه، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال البيهقي‏:‏ وقد رواه أحمد بن يونس‏:‏ عن ابن أبي الزِّناد موصولا‏.‏ وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أنها قالت له‏:‏ يا ابن أختي، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة -حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم-‏:‏ يا رسول الله، يومي هذا لعائشة‏.‏ فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ففي ذلك أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ وكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن يونس، به‏.‏ ثم قال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏

وقد رواه ‏[‏الحافظ أبو بكر‏]‏ بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، به نحوه‏.‏ ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن هشام بن عروة، بنحوه مختصرا، والله أعلم‏.‏

وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة، فلما رأته قالت له‏:‏ أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة‏.‏ فراجعها فقالت‏:‏ إني جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا غريب مرسل‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ قالت الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول‏:‏ أجعلك من شأني في حل‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ قالت‏:‏ هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يكون يستكثر منها، ولا يكون لها ولد، ولها صحبة فتقول‏:‏ لا تطلقني وأنت في حل من شأني‏.‏

حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن هشام، عن عروة، عن عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ قالت‏:‏ هو الرجل يكون له المرأتان‏:‏ إحداهما قد كبرت، أو هي دَمِيمة وهو لا يستكثر منها فتقول‏:‏ لا تطلقني، وأنت في حل من شأني‏.‏

وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، من غير وجه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحو ما تقدم، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين قال‏:‏ جاء رجل إلى عمر، رضي الله عنه، فسأله عن آية، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة، فسأله آخر عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ فقال‏:‏ عن مثل هذا فسلوا‏.‏ ثم قال‏:‏ هذه المرأة تكون عند الرجل، قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني، حدثنا مُسَدَّد، حدثنا أبو الأحوص، عن سِمَاك بن حرب، عن خالد بن عَرْعَرَة قال‏:‏ جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ فسأله عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ قال علي‏:‏ يكون الرجل عنده المرأة، فتنبو عيناه عنها من دمامتها، أو كبرها، أو سوء خلقها، أو قذذها، فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج‏.‏

وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص‏.‏ ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك، به وكذا فسرها ابن عباس، وعُبَيدة السَّلْمَاني، ومجاهد بن جَبْر، والشُّعَبِي، وسعيد بن جبَيْر، وعطاء، وعطية العوْفي ومكحول، والحكم بن عتبة، والحسن، وقتادة، وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم ‏[‏في ذلك‏]‏ خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ أنبأنا ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيَّب‏:‏ أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانتعند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت‏:‏ لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ الآية‏.‏

وقد رواه الحاكم في مستدركه، من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق‏.‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار‏:‏ أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ إلى تمام الآيتين، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه، فإن استقرت عنده على ذلك، وكرهت أن يطلقها، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك، فإن لم يعرض عليها الطلاق، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه، صلح له ذلك، وجاز صلحها عليه، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر‏}‏‏.‏

وقد ذكر لي أن رافع بن خُدَيْج الأنصاري -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة، وآثر عليها الشابة، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحلّ راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى، ثم أمهلها، حتى إذا كادت تحل راجعها، ثم عاد فآثر الشابة عليها، فناشدنه الطلاق فقال لها‏:‏ ما شئتِ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة، وإن شئت فارقتك، فقالت‏:‏ لا بل أستقر على الأثرة‏.‏ فأمسكها على ذلك، فكان ذلك صلحهما، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها‏.‏

وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، فذكره بطوله، والله أعلم

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني التخيير، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها‏.‏

والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك، خير من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة، رضي الله عنها، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام‏.‏ ولما كان الوفاق أحب إلى الله ‏[‏عز وجل‏]‏ من الفراق قال‏:‏ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ بل الطلاق بغيض إليه، سبحانه وتعالى؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا، عن كثير بن عبيد، عن محمد بن خالد، عن مُعَرِّف بن واصل، عن محارب بن دِثَار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبغض الحلال إلى الله الطلاق‏"‏‏.‏

ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن مُعَرِّف، بن محارب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏ فذكر معناه مرسلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري‏:‏ ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس، وعُبَيْدة السَّلْمَاني، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك بن مزاحم‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا حسين الجُعَفِي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رُفَيع، عن ابن أبي مُلَيكة قال‏:‏ نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ في عائشة‏.‏ يعني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏"‏اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك‏"‏ يعني‏:‏ القلب‏.‏

لفظ أبي داود، وهذا إسناد صحيح، لكن قال الترمذي‏:‏ رواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة مرسلا قال‏:‏ وهذا أصح‏.‏

وقوله ‏{‏فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ‏}‏ أي‏:‏ فإذا ملتم إلى واحدة منهم فلا تبالغوا في الميل بالكلية ‏{‏فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ‏}‏ أي‏:‏ فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، ومقاتل بن حيان‏:‏ معناه لا ذات زوج ولا مطلقة‏.‏

وقد قال أبو داود الطيالسي‏:‏ أنبأنا هَمَّام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهِيك، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيْهِ ساقط‏"‏‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث همَّام بن يحيى، عن قتادة، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ إنما أسنده همَّام، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة -قال‏:‏ ‏"‏كان يقال‏"‏‏.‏ ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همَّام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ أي‏:‏ وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا‏}‏ وهذه هي الحالة الثالثة، وهي حالة الفراق، وقد أخبر تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه، بأن يعوضه بها من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا‏}‏ أي‏:‏ واسع الفضل عظيم المن، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131 - 134‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏

يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض، وأنه الحاكم فيهما؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وصيناكم بما وصيناهم به، من تقوى الله، عز وجل، بعبادته وحده لا شريك له‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وِمَا فِي الأرْضِ ‏[‏وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا‏]‏ كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه‏:‏ ‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 8‏]‏، وقال ‏{‏فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ غني عن عباده، ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ محمود في جميع ما يقدره ويشرعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ هو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب الشهيد على كل شيء‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا‏}‏ أي‏:‏ هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، وكما قال ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقال بعض السلف‏:‏ ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏.‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 19، 20‏]‏ أي‏:‏ ما هو عليه بممتنع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ يا من ليس هَمُّه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ‏.‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏.‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا ‏[‏وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200-202‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ‏[‏وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ‏]‏ ‏[‏الشورى‏:‏20‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا‏.‏ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا‏.‏ كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا‏.‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ‏[‏وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا‏]‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18-21‏]‏‏.‏

وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك، ‏{‏فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا‏}‏ وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالآخِرَةِ‏}‏ أي‏:‏ وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم‏.‏ وجعلها كقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ‏[‏نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا‏]‏ وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ‏.‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏

ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر؛ فإن قوله ‏{‏فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة، أي‏:‏ بيده هذا وهذا، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع، وهو الله الذي لا إله إلا هو، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس، وعدل بينهم فيما علمه فيهم، ممن يستحق هذا، وممن يستحق هذا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شُهَدَاءَ لِلَّهِ‏}‏ كَمَا قَالَ ‏{‏وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه،وإن كان مَضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ‏}‏ أي‏:‏ وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تُراعهم فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره، الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما‏.‏

وقوله ‏{‏فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا‏}‏ أي‏:‏ فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏

ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم، فقال‏:‏ والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏"‏بهذا قامت السماوات والأرض‏"‏‏.‏ وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة، إن شاء الله ‏[‏تعالى‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا‏}‏ قال مجاهد وغير واحد من السلف‏:‏ ‏{‏تَلْوُوا‏}‏ أي‏:‏ تحرفوا الشهادة وتغيروها، ‏"‏واللّي‏"‏ هو‏:‏ التحريف وتعمد الكذب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ ‏[‏لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏]‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏ و‏"‏الإعراض‏"‏ هو‏:‏ كتمان الشهادة وتركها، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏283‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها‏"‏‏.‏ ولهذا توعدهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ وسيجازيكم بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏136 - 140‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه‏.‏ كما يقول المؤمن في كل صلاة‏:‏ ‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ أي‏:‏ بَصِّرنا فيه، وزدنا هدى، وثبتنا عليه‏.‏ فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن‏:‏ ‏{‏نزلَ‏}‏؛ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ ثُمَّ قَالَ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏ أي‏:‏ فقد خرج عن طريق الهدى، وبعد عن القصد كل البعد‏.‏